تتحدث اليونسكو وغيرها من المنظمات التي تهتم بالتعليم بوصفه حق أصيل وأساسي من حقوق الإنسان وتعرفه المواثيق الدولية بوصفه البوابة الرئيسية لكل حقوق الإنسان (فمن لايستطيع قراءة حقوقه لن يستطيع الدفاع عنها ببساطة) ،تتحدث كل هذه المنظمات وتوصي بألا يقل الجزء المخصص للتعليم من الإنفاق الحكومي عن 25% منه .
وينص دستور 2014 على تخصيص 4% من الناتج المحلي الإجمالي للتعليم قبل الجامعي وهو ما لن يصل إلى المعدل العالمي (25% من الإنفاق الحكومي) حيث يتراوح الانفاق الحكومي على التعليم دائما بين 10% و12% من الإنفاق الحكومي
ومن ناحية أخرى تقدر اليونسكو والبنك الدولي الحد الأدني لنصيب الطالب من الإنفاق على التعليم بخمسائمة دولار أمريكي وهو الحد الأدني اللازم فقط لمحو الأمية القرائية بمعني أنه لا يكفي اصلا لإكساب الطالب أية مهارات .
ويتراوح نصيب الطالب في مصر من إجمالي مخصصات التعليم إلى مابين ما يقل أو ما يقرب من النصف عن هذا المعدل ، وإذا أخذنا في الاعتبار أن النفقات الجارية على التعليم (الأجور والمكافآت والبدلات …إلخ) تستحوذ على مايزيد عن90% من مخصصات التعليم (تقدر أحيانا ب 97% ) اصبح نصيب الطالب من النفقات الاستثمارية (بناء المدارس وطباعة الكتب وتطوير المناهج ونظم التقويم … إلخ) مضحكا ، وهنا لابد أن نذكر أن مايخصص لأجور المعلمين هو أقل من نصف مخصصات الأجور رغم أنهم الأكثر عددا في قطاع التعليم وذلك بحسب ورقة حقائق نشرها المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية على موقعه بتاريخ 8-2-2016 .
وتقدر مخصصات التعليم كله (الجامعي وقبل الجامعي ) في ميزانية 2016-2017 بنحو 104 مليار جنيه بنسة 2.32% تقريبا من الناتج المحلي الإجمالي ،وبنسبة 11% تقريبا من الإنفاق الحكومي بحسب وزارة المالية في مشروع الموازنة المقدم للبرلمان ، عادة ما يخصص منها مابين 65%إلى 70% للتعليم قبل الجامعي اي ما يقدر بحوالي 728000000 ليقل عن 2 % من الناتج المحلي الإجمالي و ليدور نصيب الطالب حول 3640جنيها في العام اي ما يمكن أن يقدربحوالي 412 دولار في العام بحسب السعر الرسمي للدولار الآن ، اما بحسب سعر الدولار في تقديرات الموازنة للعام القادم فيدور نصيب الطالب حول 269 دولار هذا بالنسبة لإجمالي المخصصات ويصبح نصيب الطالب من المخصصات الاستثمارية للتعليم حوالي 364 جنيها سنويا اي ما يمكن أن يكون ثمن وجبة لأسرة متوسطة الحال في أحد المطاعم.
من جهة ثالثة فإن النصيب الأكبر الذي يتم توجيهه إلى الأجور (النفقات الجارية ) لا يتم توزيعه بشكل عادل حيث الفجوة بين أعلى دخل وأقل دخل ضخمة جدا ،وإذا كانت توصية اليونسكو حول اجور المعلمين تتحدث عن 750 دولار شهريا مقومة بالعملة المحلية عند بدء الاشتغال بالتدريس ،نجد أجور المعلمين في مصر تدور حول ثمن هذا الرقم في حين أن الجهد الذي يبذله المعلم المصري نتيجة لارتفاع كثافة الفصول يساوي ضعف ونصف الضعف في المتسوط قياسا على المتوسط العالمي .
ومن جهة أخرى يؤدي ضعف الإنفاق الاستثماري على التعليم (ومنه الإنفاق على تطوير المناهج والكتب المدرسية ونظم التقويم) إلى وجود مناهج فقيرة ومملة وقائمة على التلقين فهي تكاد تكون نشرات سياسية تصدرها وزارة التعليم حاملة وجهة نظر السلطة التنفيذية أو النخبة السياسية سواء في العلوم الإنسانية أو الطبيعية ، فعندما نجد مثلا أن نصوص الأدب المقررة على طلاب المرحلة الثانوية ينتمي الحديث منها لجيل الستينات الذي يفضله الحكام المصريين ، وعندما نجد كتب الكيمياء والفيزياء والتاريخ الطبيعي مملوءة بتفاسير واستشهادات غير علمية تحكم الغيبي حمال الأوجه في المتعين والعلمي ، وعندما نجد كتب التاريخ تبدو كسطح أملس يمجد الماضي من أجل التكريس لكون اللحظة الراهنة هي نتاج عظيم لكل ما مضى وانه ليس في الإمكان أبدع منها ، وعندما يكون كل ذلك منزوع العلم والنقد بل والتشويق
وعندما يكون المعلم أو جهاز الكمبيوتر او التابلت هو مجرد ناقل للمعلومة وملقن لها وعندما يكون الهدف النهائي من الإختبارات هو تقسيم الطلاب إلى ثنائية (تشبه النظرة السلطوية للعالم والتي تقسمه إلى أهل خير وأهل شر) حيث ينقسم الطلاب إلى ناجحين وفاشلين ، وعندما تكون حصيلة ما تسدده المدرسة من نسبة المجموعات المدرسية (خاصة في مرحلة التعليم الأساسي) أهم مما يحدث داخل المدرسة من عمليات تعليم وتعلم ، حيث من المتعارف عليه في ما يقارب 100% من مدارس المرحلتين الابتدائية والإعدادية أن يعقد مديرو المدارس اجتماعا سنويا في بدايات الموسم الدراسي لا لبحث افضل الطرق لإنجاح العام الدراسي ولكن للاتفاق على ما سوف يدفعه المعلمون من رواتبهم كنسبة للمجموعات توجه إلى الإدارة بدءا بمدير المدرسة والعاملين بها ووصولا إلى الوظائف العليا بوزراة التربية والتعليم وفي مقابل هذه النسبة يتم غض الطرف عن الدروس الخصوصية أو المخالفات الأخرى مالم تتسم بالعنف الشديد أو الخروج عن النظام أو السياسة
وعندما يكون ضمان عدم خروج المعلمين او الطلاب عن النظام سواء بالنقد أو إبداء وجهة نظر مغايرة للمنهج الموضوع من قبل الوزارة أو إضافة كتاب لمكتبة فصل مدرسي هو أهم مايشغل مديري المدارس ومندوبي الامن بها ، وعندما يتم تعريف الطالب على أنه زبون مستهلك للخدمة \السلعة وذلك في التدريبات التي يتم فرضها على المعلمين من قبل الوزارة بحكم قانون هيئة ضمان الجودة والاعتماد أو القانون 155لسنة 2007 وتعديلاته ، عندما يحدث كل ذلك ، نكون أمام خليط من سياسات الخصخصة وتسليع الحقوق وسياسات التسلط والقهر المعمم ، وهو جوهر ما يحدث في مصر منذ عقود .
إن الإدارة غير الديمقراطية بل والتسلطية للتعليم التي تتعامل مع الأطفال على أنهم شريرين يتوجب ضبطهم اجتماعيا ولا ترى في المعلمين إلا بديل عن سلطة الأب الذي يسعى لمعاقبة طفله عند أي خطأ ، هذه الإدارة تجعل من السيطرة الأمنية (سيطرة العقل الأمني العقابي ) على التعليم أسهل وسيلة للاكتفاء من المدرسة بدورها في التعبئة السياسية والحشد باتجاه طاعة ولي الأمر أو الحاكم ، وليس أدل على ذلك مما وصفته الوزارة باستراتيجية الأمن الفكري وهي المستوردة راسا من السعودية بوهابيتها .
هذه الاستراتيجية التي تقوم أساسا على ما يشبه محاولات غسيل المخ للطلاب حيث تقوم أساسا على تسليط فكرة مركزية تنشد استقرار الاوضاع الراهنة بوصفها الأصلح للفرد والمجتمع بل والأصح والأشمل لفهم العالم ، وتنحية اية أفكار أو آراء أخرى بوصفها الشر كله وبوصفها ضد صالح الفرد والمجتمع ، والتي يتم تصميمها خصيصا لمواجهة التقدم التقني في وسائل الاتصال عبر التشكيك فيما يتم نقله من معلومات عبرها وكذا الشتكيك في كل صوت أو معلمة يصل إليها الطلاب إلا تلك المعلومات والعارف التي تنقلها وزارة التربية والتعليم وذلك كله بحجة خفض معدلات العنف المدرسي والخروج على الاستقرار المجمتعي
ولا أستغرب هنا أن أحد المقترحات ضمن هذه الاستراتيجية كان أن يقوم بالتدريس من خلالها رجال الأمن عبر ما يسمى بأندية الأمن الفكري داخل المدارس ، وهو الاقتراح الذي تم السكوت عنه فلا أحد يعرف إن كان سوف يطبق أم سيتم الاكتفاء بإشراف مندوبي الأمن او الاتصال السياسي بالمدارس على هذه الأندية، وذلك بدلا من أن يتم الالتفات إلى الأسباب الحقيقية للعنف المدرسي ومواجهتها والتي هي في معظمها ترتكز على حرمان الطلاب من حقهم في بيئة تعلم صديقة للطفل عبر انسحاب الدولة ممثلة في السلطة التنفيذية من دورها في بناء المدارس حتى وصل العجز في عدد المباني المدرسي لما يقارب 30000مدرسة
وترك الأمر للقطاع الخاص عبر الاتفاق الذي أبرمته وزارة التعليم مع القطاع الخاص والذي يقضي بمنح أراضي الدولة لرجال الأعمال الراغبين في الاستثمار في التعليم بحق انتفاع 30 سنة يمكن زيادتها إلى 40 سنة على أن ينشئوا المدارس ويديرونها كمؤسسات خاصة ، وهو المشروع الذي كان مطروحا منذ 2006 على يد وزير التعليم وقتها د. يسري الجمل ، إن كثافات الفصول المرتفعة والتي تسيد ثقافة المزاحمة على الفرص داخل بيئة التعلم هي جوهر أسباب ارتفاع معدلات العنف المدرسي . كما أن الانتهاك المنهجي للحق في العمل والذي يتبدى في العجز في اعداد المعلمين والعاملين في قطاع التعليم وعلى الأخص عمال الخدمات وكذا في تدهور أجورهم هو سبب آخر في انتشار مظاهر العنف المدرسي وقول واحد يبدءالعنف المدرسي من سياسات الخصخصة الممزوجة بالقهر .
ولا شك أن اهتمام السلطة بالسيطرة الأمنية على المدارس الحكومية والخاصة الشعبية بدءا من تحديد ما يوضع في الكتاب المدرسي وليس انتهاءا بتعيين القائمين على التدريس ، حيث يتكون جهاز السيطرة الأمنية على التعليم بشكل هرمي يجلس على قمته أحد اللواءات المنتدبين من جهة سيادية ويقبع في قاعدة خمسون ألف مندوب من العاملين بالتعليم مرورا بوجود ما يسمى مسئولو الاتصال السياسي بالإدارات والمديريات التعليمية ، بحيث تكون أحد مهامهم رفع التقارير الأمنية عن العاملين والطلاب ، ووصل الأمر إلى افتخار وكيلة وزارة التعليم بالجيزة بقيامها بحرق كتب من مكتبة إحدى المدارس وهي ترفع علم الدولة وعلى موسيقى الاغاني الوطنية ، وهي نفسها التي صرحت لإحد الجرائد بتعاونها مع الأمن الوطني والإبلاغ عن المعلمين المعارضين للحكم ، كما أن القائم بأعمال رئيس نقابة المهن التعليمية ردد نفس الكلام
لا شك أن هذه السيطرة الأمنية تكرس لبيئة تفتقد للابداع والتنوع الاختلاف والنقد، كما أنه يشكل حاضنة أساسية للفساد وحمايته ، وكذا فإن ثقافة الاستهلاك والتسليع وضعف أجور المعلمين مضفرا مع البنية التسلطية حيث يستطيع المعلم إعادة انتاج القهر الواقع عليه باتجاه الأطراف الأكثر ضعفا زاد من حدة العنف المدرسي ومن انتشار الدروس الخصوصية ، التي ساهمت بدورها في نشر ثقافة محافظة وتدين شكلي بين المعلمين ، فالآباء سوف يطئمنون أكثر لترك أطفالهم مع مدرس ملتزم دينيا أكثر من مدرس أو مدرسه يبدو متحررا في مظهره خاصة في البيئات الشعبية والفقيرة .
كنتيجة لكل ماسبق ، ترسخت لدى أجيال كاملة ثقافة ان التعليم سلعة وليس حقا ، وأن الإنفاق الأسري هو شرط لنجاح الطالب سواء كان هذا الإنفاق في صورة كتب خارجية ، أو دروس خصوصية أو مدارس خاصة ،وصولا لدفع ثمن ورقة امتحان مسربة ، علما بأن ما يقره الواقع ليس بعيدا فكلما زاد الإنفاق الأسري على تعليم الأبناء ، زادت فرص الأبناء في تعليم افضل ، بل في فرص عمل أفضل.
كما ترسخت فكرة أخرى ، وهي أن المدرسة مكان لقهر الاختلاف والتنوع وتمجيد التشابه وتسييد الطاعة التامة للسلطة ، حيث تتم تنحية الدور التعليمي المرتبط بالمعرفة بوصفها مغامرة ونتاج لعمل جماعي لحساب الدور القروسطي الأبوي المتسلط ، الذي لا يرى في الأطفال كما أسلفنا إلا أرواحا شريرة يجب ضبطها اجتماعيا ، او أيدي عاملة مستقبلية رخيصة .